فصل: فَصْلٌ: حُكْمُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: حُكْمُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى:

وَأَمَّا حُكْمُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْيَمِينِ أَمَّا يَمِينُ الْغَمُوسِ فَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لَكِنْ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّهَا جُرْأَةٌ عَظِيمَةٌ حَتَّى قَالَ: الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ كَانَ الْقِيَاسُ عِنْدِي أَنَّ الْمُتَعَمِّدَ بِالْحَلِفِ عَلَى الْكَذِبِ يَكْفُرُ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى جُعِلَتْ لِلتَّعْظِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْحَالِفُ بِالْغَمُوسِ مُجْتَرِئٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَخِفٌّ بِهِ وَلِهَذَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحَلِفِ بِالْآبَاءِ وَالطَّوَاغِيتِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَعْظِيمًا لَهُمْ وَتَبْجِيلًا فَالْوِزْرُ لَهُ فِي الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ أَعْظَمُ وَهَذَا لِأَنَّ التَّعَمُّدَ بِالْحَلِفِ كَاذِبًا عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَسْمَعُ اسْتِشْهَادَهُ بِاَللَّهِ كَاذِبًا- مُجْتَرِئٌ عَلَى اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَمُسْتَخِفٌّ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ ذُكِرَ عَلَى طَرِيقِ التَّعْظِيمِ وَسَبِيلُ هَذَا سَبِيلُ أَهْلِ النِّفَاقِ أَنَّ إظْهَارَهُمْ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- اسْتِخْفَافٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ اعْتِقَادُهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ تَعْظِيمًا فِي نَفْسِهِ وَصِدْقًا فِي الْحَقِيقَةِ تَلْزَمُهُمْ الْعُقُوبَةُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ وَكَذَا هَذَا وَلَكِنْ نَقُولُ لَا يَكْفُرُ بِهَذَا لِأَنَّ فِعْلَهُ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ لَكِنَّ غَرَضَهُ الْوُصُولُ إلَى مُنَاهُ وَشَهْوَتِهِ لَا الْقَصْدُ إلَى ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُؤَالِ السَّائِلِ إنَّ الْعَاصِيَ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ وَمَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَقَدْ كَفَرَ كَيْفَ لَا يَكْفُرُ الْعَاصِي؟ فَقَالَ لِأَنَّ فِعْلَهُ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الطَّاعَةِ لِلشَّيْطَانِ لَكِنْ مَا فَعَلَهُ قَصْدًا إلَى طَاعَتِهِ وَإِنَّمَا يَكْفُرُ بِالْقَصْدِ إذْ الْكُفْرُ عَمَلُ الْقَلْبِ لَا بِمَا يَخْرُجُ فِعْلُهُ فِعْلَ مَعْصِيَةٍ فَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ.
وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ الْمَعْهُودَةُ وَهِيَ الْكَفَّارَةُ بِالْمَالِ فَلَا تَجِبُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} نَفَى الْمُؤَاخَذَةَ بِالْيَمِينِ اللَّغْوِ فِي الْأَيْمَانِ وَأَثْبَتَهَا بِمَا كَسَبَ الْقَلْبُ، وَيَمِينُ الْغَمُوسِ مَكْسُوبَةٌ بِالْقَلْبِ فَكَانَتْ الْمُؤَاخَذَةُ ثَابِتَةً بِهَا إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْهَمَ الْمُؤَاخَذَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ أَنَّهَا بِالْإِثْمِ أَوْ بِالْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ لَكِنْ فَسَّرَ فِي الْأُخْرَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الْآيَةُ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُؤَاخَذَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ هَذِهِ الْمُؤَاخَذَةُ، وَبِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الْآيَةُ أَثْبَتَ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ بِالْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ، وَيَمِينُ الْغَمُوسِ مَعْقُودَةٌ لِأَنَّ اسْمَ الْعَقْدِ يَقَعُ عَلَى عَقْدِ الْقَلْبِ وَهُوَ الْعَزْمُ وَالْقَصْدُ وَقَدْ وُجِدَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي آخِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} جَعَلَ الْكَفَّارَةَ الْمَعْهُودَةَ كَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُمُومِ خَصَّ مِنْهُ يَمِينَ اللَّغْوِ فَمَنْ ادَّعَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ مَعَ مَا أَنَّ أَحَقَّ مَا يُرَادُ بِهِ الْغَمُوسُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْوُجُوبَ بِنَفْسِ الْحَلِفِ دُونَ الْحِنْثِ وَذَلِكَ هُوَ الْغَمُوسُ إذْ الْوُجُوبُ فِي غَيْرِهِ يَتَعَلَّقُ بِالْحِنْثِ.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} الْآيَةُ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالًا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» وَالِاسْتِدْلَالُ بِالنُّصُوصِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مُوجِبَ الْغَمُوسِ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ فَمَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فَقَدْ زَادَ عَلَى النُّصُوصِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِمِثْلِهَا وَمَا رُوِيَ عَنْ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنْ اللِّعَانِ: «اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ» دَعَاهُمَا إلَى التَّوْبَةِ لَا إلَى الْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَاجَتَهُمَا إلَى بَيَانِ الْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً كَانَتْ أَشَدَّ مِنْ حَاجَتِهِمَا إلَى بَيَانِ كَذِبِ أَحَدِهِمَا وَإِيجَابِ التَّوْبَةِ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّوْبَةِ بِالذَّنْبِ يَعْرِفُهُ كُلُّ عَاقِلٍ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ مَعُونَةِ السَّمْعِ، وَالْكَفَّارَةُ الْمَعْهُودَةُ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالسَّمْعِ فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْ مَعَ أَنَّ الْحَالَ حَالُ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ دَلَّ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ.
وَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ فِي الْخَصْمَيْنِ أَنَّهُ قَضَى لِأَحَدِهِمَا وَذَكَرَ فِيهِ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ أَنْ يَأْخُذَهُ وَهُوَ غَيْرُ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ ثُمَّ أَمَرَهُمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِهَامِ وَأَنْ يُحَلِّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْكَفَّارَةَ وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً فَعُلِمَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يُعْرَفُ إلَّا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ النَّصُّ أَوْ الْإِجْمَاعُ أَوْ الْقِيَاسُ وَلَمْ يُوجَدْ وَأَقْوَى الدَّلَائِلِ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ نَفْيُ دَلِيلِهِ أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَظَاهِرُ الِانْتِفَاءِ وَكَذَا النَّصُّ الْقَاطِعُ لِأَنَّ أَهْلَ الدِّيَانَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ نَصٌّ قَاطِعٌ، وَالنَّصُّ الظَّاهِرُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ الِاعْتِقَادُ قَطْعًا فَلَا يَقَعُ الِاخْتِلَافُ ظَاهِرًا فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ وَمِنْ شَرْطِهِ التَّسَاوِي وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ الذَّنْبَ فِي يَمِينِ الْغَمُوسِ أَعْظَمُ وَمَا صَلَحَ لِدَفْعِ أَدْنَى الذَّنْبَيْنِ لَا يَصْلُحُ لِرَفْعِ أَعْلَاهُمَا، وَلِهَذَا قَالَ: إِسْحَاقُ فِي يَمِينِ الْغَمُوسِ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِيهَا فَقَوْلُ مَنْ يُوجِبُهَا ابْتِدَاءً شَرْعٌ وَنَصْبُ حُكْمٍ عَلَى الْخَلْقِ وَهُوَ لَمْ يُشْرِكْ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} لِأَنَّ مُطْلَقَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْجِنَايَاتِ يُرَادُ بِهَا الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهَا حَقِيقَةُ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْجَزَاءِ.
فَأَمَّا الْمُؤَاخَذَةُ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ تَكُونُ خَيْرًا وَتَكْفِيرًا فَلَا تَكُونُ مُؤَاخَذَةً مَعْنًى وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ: إنَّ الْمُؤَاخَذَةَ بِيَمِينِ الْغَمُوسِ ثَابِتَةٌ فِي الْآخِرَةِ وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى- يُؤَاخِذُكُمْ إخْبَارٌ أَنَّهُ يُؤَاخِذُ.
فَأَمَّا قَضِيَّةُ الْمُؤَاخَذَةِ فَلَيْسَتْ بِمَذْكُورَةٍ فَيَسْتَدْعِي نَوْعَ مُؤَاخَذَةٍ، وَالْمُؤَاخَذَةُ بِالِاسْمِ مُرَادَةٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُ مُرَادًا إذًا.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى- {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ} فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْيَمِينُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ هُوَ الشَّدُّ وَالرَّبْطُ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ عَقْدُ الْحَبْلِ وَعَقْدُ الْحِمْلِ، وَانْعِقَادُ الرِّقِّ وَهُوَ ارْتِبَاطُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَقَدْ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْعَهْدُ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِأَنَّ الْآيَةَ قُرِئَتْ بِقِرَاءَتَيْنِ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، وَالتَّشْدِيدُ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا عَقْدَ اللِّسَانِ وَهُوَ عَقْدُ الْقَوْلِ وَالتَّخْفِيفُ يَحْتَمِلُ الْعَقْدَ بِاللِّسَانِ وَالْعَقْدَ بِالْقَلْبِ وَهُوَ الْعَزْمُ وَالْقَصْدُ، فَكَانَتْ قِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ مُحْكَمَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى إرَادَةِ الْعَقْدِ بِاللِّسَانِ وَالْقِرَاءَةُ بِالتَّخْفِيفِ مُحْتَمِلَةً فَيُرَدُّ الْمُحْتَمِلُ إلَى الْمُحْكَمِ لِيَكُونَ عَمَلًا بِالْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْمُوَافِقَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْيَمِينُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَنَّهُ عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ فِيهَا بِالْحَلِفِ وَالْحِنْثِ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ وَالْحِنْثُ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْيَمِينِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} وَحِفْظُ الْيَمِينِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَحْقِيقُ الْبِرِّ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَإِنْجَازُ الْوَعْدِ وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ.
(وَأَمَّا) يَمِينُ اللَّغْوِ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا بِالتَّوْبَةِ وَلَا بِالْمَالِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} أَدْخَلَ كَلِمَةَ النَّفْيِ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ فَيَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمُؤَاخَذَةِ فِيهَا بِالْإِثْمِ وَالْكَفَّارَةِ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي تَفْسِيرِهَا وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْيَمِينِ عَلَى الْمَعَاصِي فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ثُمَّ الْحَالِفُ بِاللَّغْوِ إنَّمَا لَا يُؤَاخَذُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى،.
فَأَمَّا الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ حَتَّى يَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي نَفْيِ الْمُؤَاخَذَةِ عَامًّا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالْخَبَرِ وَالنَّظَرِ، أَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ» وَذَكَرَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ، وَاللَّاغِي لَا يَعْدُو هَذَيْنِ فَدَلَّ أَنَّ اللَّغْوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَأَمَّا النَّظَرُ فَهُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ مِمَّا يَقَعُ مُعَلَّقًا وَمُنَجَّزًا وَمَتَى عُلِّقَ بِشَرْطٍ كَانَ يَمِينًا فَأَعْظَمُ مَا فِي اللَّغْوِ أَنَّهُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ وَارْتِبَاطَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ فَيَبْقَى مُجَرَّدَ ذِكْرِ صِيغَةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَيَعْمَلُ فِي إفَادَةِ مُوجَبِهِمَا بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا لَغَا الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَبْقَى مُجَرَّدُ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ فَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ اللَّغْوُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا فِي الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَسَائِرِ الْأَجْزِيَةِ.
(وَأَمَّا) حُكْمُ الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ وَهِيَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَالْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى فِعْلِ وَاجِبٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى تَرْكِ الْمَنْدُوبِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى تَرْكِ الْمُبَاحِ أَوْ فِعْلِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَى فِعْلِ وَاجِبٍ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأُصَلِّيَنَّ صَلَاةَ الظَّهْرِ الْيَوْمَ أَوْ لَأَصُومَنَّ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» وَلَوْ امْتَنَعَ يَأْثَمُ وَيَحْنَثُ وَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ كَانَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْ عَلَى فِعْلِ مَعْصِيَةٍ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُصَلِّي صَلَاةَ الْفَرْضِ أَوْ لَا أَصُومُ رَمَضَانَ أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ أَوْ لَأَزْنِيَنَّ أَوْ لَأَقْتُلَنَّ فُلَانًا أَوْ لَا أُكَلِّمُ وَالِدِي وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ لِلْحَالِ الْكَفَّارَةُ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْنِثَ نَفْسَهُ وَيَكُونُ بِالْمَالِ لِأَنَّ عَقْدَ هَذِهِ الْيَمِينِ مَعْصِيَةٌ فَيَجِبُ تَكْفِيرُهَا بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي الْحَالِ كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا كَفَّارَةٌ مَعْهُودَةٌ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ لِيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» أَيْ عَلَيْهِ أَنْ يُحْنِثَ نَفْسَهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ تَعَالَى فَلَا يَعْصِهِ».
وَتَرْكُ الْمَعْصِيَةِ بِتَحْنِيثِ نَفْسِهِ فِيهَا فَيَحْنَثُ بِهِ وَيُكَفِّرُ بِالْمَالِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ الْمَعْهُودَةُ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمَعَاصِي وَإِنْ حَنَّثَ نَفْسَهُ فِيهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا فَلْيَأْتِهِ فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ بِهَا» وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ شُرِعَتْ لِرَفْعِ الذَّنْبِ وَالْحِنْثُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ لَيْسَ بِذَنْبٍ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِرَفْعِ الذَّنْبِ وَلَا ذَنْبَ.
(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} إلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْيَمِينِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَغَيْرِهَا وَالْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ بِيَمِينٍ ثُمَّ رَأَى خَيْرًا مِمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» فَوَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ حَدِيثَيْهِ فَبَقِيَ الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ لَنَا بِلَا تَعَارُضٍ، وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُهَا لِعُذْرٍ فِي الْحَانِثِ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِمُطْلَقِ الْحِنْثِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَانِثُ سَاهِيًا أَوْ خَاطِئًا أَوْ نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ مَجْنُونًا فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُهَا لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمُبَاحَاتِ: إمَّا لِأَنَّ الْحِنْثَ فِيهَا يَقَعُ خُلْفًا فِي الْوَعْدِ وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ لِأَنَّ الْحَالِفَ وَعَدَ أَنْ يَفْعَلَ وَعَاهَدَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا حَنِثَ فَقَدْ صَارَ بِالْحِنْثِ مُخْلِفًا فِي الْوَعْدِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ لِيَصِيرَ الْحَلِفُ مَسْتُورًا كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَوْ لِأَنَّ الْحِنْثَ مِنْهُ يَخْرُجُ مَخْرَجَ الِاسْتِخْفَافِ بِالِاسْتِشْهَادِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ مَتَى قُوبِلَ ذَلِكَ بِعَقْدِهِ السَّابِقِ لَا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ إذْ الْمُسْلِمُ لَا يُبَاشِرُ الْمَعْصِيَةَ قَصْدًا لِمُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَةِ الِاسْتِخْفَافِ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ جَبْرًا لِمَا هَتَكَ مِنْ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى صُورَةً لَا حَقِيقَةً وَسَتْرًا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَجْهَيْنِ مَوْجُودٌ هاهنا فَيَجِبُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ الْكَفَّارَةُ شُرِعَتْ لِرَفْعِ الذَّنْبِ فَنَعَمْ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ لَا ذَنْبَ؟ وَقَوْلُهُمْ الْحِنْثُ وَاجِبٌ؟، قُلْنَا بَلَى لَكَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَرْكُ الْمَعْصِيَةِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَقْضُ الْيَمِينِ الَّتِي هِيَ عَهْدٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ الْحِنْثُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ذَنْبٌ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ وَإِنْ كَانَ عَلَى تَرْكِ الْمَنْدُوبِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُصَلِّي نَافِلَةً وَلَا أَصُومُ تَطَوُّعًا وَلَا أَعُودُ مَرِيضًا وَلَا أُشَيِّعُ جِنَازَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُبَاحٍ تَرْكًا أَوْ فِعْلًا كَدُخُولِ الدَّارِ وَنَحْوِهِ فَالْأَفْضَلُ لَهُ الْبِرُّ وَلَهُ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ وَيُكَفِّرَ، ثُمَّ الْكَفَّارَةُ تَجِبُ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ سَوَاءٌ قَصَدَ الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ عِنْدَنَا بِأَنْ كَانَتْ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لابد مِنْ قَصْدِ الْيَمِينِ لِتَجِبَ الْكَفَّارَةُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنِّكَاحُ» فَتَخْصِيصُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالذِّكْرِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْهَزْلِ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْجَدِّ وَالْهَزْلِ يَخْتَلِفُ فِي غَيْرِهَا لِيَكُونَ التَّخْصِيصُ مُفِيدًا.
(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى- {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} أَثْبَتَ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْقَصْدِ إذْ الْعَقْدُ هُوَ الشَّدُّ وَالرَّبْطُ وَالْعَهْدُ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} أَيْ حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ جَعَلَ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ كَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُمُومِ عِنْدَ وُجُودِ الْحَلِفِ وَالْحِنْثِ وَقَدْ وُجِدَ.
(وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْيَمِينُ» مَعَ مَا أَنَّ رِوَايَتَهُ الْأُخْرَى مَسْكُوتَةٌ عَنْ غَيْرِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ إذْ لَا يَتَعَرَّضُ لِغَيْرِهَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ- وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ-.
ثُمَّ وَقْتُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ هُوَ وَقْتُ وُجُودِ الْحِنْثِ فَلَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ قَوْمٌ وَقْتُهُ وَقْتُ وُجُودِ الْيَمِينِ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِعَقْدِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ} وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَكَفَّارَتُهُ} أَيْ كَفَّارَةُ مَا عَقَّدْتُمْ مِنْ الْأَيْمَانِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَسْتَدْعِي مُضَافًا إلَيْهِ سَابِقًا وَلَمْ يَسْبِقْ غَيْرُ ذَلِكَ الْعَقْدِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} أَضَافَ الْكَفَّارَةَ إلَى الْيَمِينِ وَعَلَى ذَلِكَ تُنْسَبُ الْكَفَّارَةُ إلَى الْيَمِينِ فَيُقَالُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَالْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى السَّبَبِيَّةِ فِي الْأَصْلِ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ لِيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّكْفِيرِ بَعْدَ الْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ أَضَافَ التَّكْفِيرَ إلَى الْيَمِينِ فَكَذَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى «فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ» أَمَرَ بِتَكْفِيرِ الْيَمِينِ لَا بِتَكْفِيرِ الْحِنْثِ فَدَلَّ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِلْيَمِينِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنْ الْوَعْدِ إلَّا بِالِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ النَّهْيَ فِي الْيَمِينِ أَوْكَدُ وَأَشَدُّ مِمَّنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ بِلَا ثُنْيَا فَقَدْ صَارَ عَاصِيًا بِإِتْيَانِ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِدَفْعِ ذَلِكَ الْإِثْمِ عَنْهُ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةٌ وَالْكَفَّارَةُ تَكُونُ لِلسَّيِّئَاتِ إذْ مِنْ الْبَعِيدِ تَكْفِيرُ الْحَسَنَاتِ، فَالسَّيِّئَاتُ تُكَفَّرُ بِالْحَسَنَاتِ.
قَالَ اللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وَعَقْدُ الْيَمِينِ مَشْرُوعٌ قَدْ أَقْسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَكَذَا الرُّسُلُ الْمُتَقَدِّمَةُ- عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَالَ اللَّهُ تَعَالَى خَبَرًا عَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}.
وَقَالَ خَبَرًا عَنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُمْ {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} وَكَذَا أَيُّوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ فَأَمَرَهُ اللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالْوَفَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} وَالْأَنْبِيَاءُ- عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعْصُومُونَ عَنْ الْكَبَائِرِ وَالْمَعَاصِي فَدَلَّ أَنَّ نَفْسَ الْيَمِينِ لَيْسَتْ بِذَنْبٍ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا حَلَفْتُمْ فَاحْلِفُوا بِاَللَّهِ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَدَلَّ أَنَّ نَفْسَ الْيَمِينِ لَيْسَ بِذَنْبٍ فَلَا يَجِبُ التَّكْفِيرُ لَهَا وَإِنَّمَا يَجِبُ لِلْحِنْثِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَأْثَمُ فِي الْحَقِيقَةِ وَمَعْنَى الذَّنْبِ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ عَاهَدَ اللَّهَ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، فَالْحِنْثُ يَخْرُجُ مَخْرَجَ نَقْضِ الْعَهْدِ مِنْهُ فَيَأْثَمُ بِالنَّقْضِ لَا بِالْعَهْدِ وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ} الْآيَةَ وَلِأَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ لِلَّهِ تَعَالَى وَجَعْلِهِ مَفْزَعًا إلَيْهِ وَمَأْمَنًا عَنْهُ فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ مَحْوًا لَهُ وَسِتْرًا وَتَبَيَّنَ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْحَالِفَ يَصِيرُ عَاصِيًا بِتَرْكِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- تَرَكُوا الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْيَمِينِ وَلَمْ يَجُزْ وَصْفُهُمْ بِالْمَعْصِيَةِ فَدَلَّ أَنَّ تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ فِي مُطْلَقِ الْوَعْدِ مَنْهِيًّا عَنْهُ كَرَاهَةً وَذَلِكَ- وَاَللَّهُ- عَزَّ- وَجَلَّ- أَعْلَمُ- لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَعْدَ إضَافَةُ الْفِعْلِ إلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ أَفْعَلُ غَدًا كَذَا وَكُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ فِعْلَهُ لَا يَتَحَقَّقُ لِأَحَدٍ إلَّا بَعْدَ تَحْقِيقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الِاكْتِسَابُ لِذَلِكَ إلَّا بِإِقْدَارِهِ فَيُنْدَبُ إلَى قِرَانِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْوَعْدِ لِيُوَفَّقَ عَلَى ذَلِكَ وَيُعْصَمَ عَنْ التَّرْكِ وَفِي الْيَمِينِ يُذْكَرُ الِاسْتِشْهَادُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقِ التَّعْظِيمِ، قَدْ اسْتَغَاثَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِلَيْهِ فَزِعَ فَيَتَحَقَّقُ التَّعْظِيمُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ وَزِيَادَةٌ فَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي أَنَّ الْيَمِينَ شُرِعَتْ لِتَأْكِيدِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ خُصُوصًا فِي الْبَيْعَةِ، وَقِرَانُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ لَهُ الْعَقْدُ، بِخِلَافِ الْوَعْدِ الْمُطْلَقِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَتَأْوِيلُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَيْ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِمُحَافَظَةِ مَا عَقَّدْتُمْ مِنْ الْأَيْمَانِ وَالْوَفَاءِ بِهَا كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} فَإِنْ تَرَكْتُمْ ذَلِكَ فَكَفَّارَتُهُ كَذَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} فَتَرَكْتُمْ الْمُحَافَظَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} وَالْمُحَافَظَةُ تَكُونُ بِالْبِرِّ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ عَلَى إضْمَارِ الْحِنْثِ أَيْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِحِنْثِكُمْ فِيمَا عَقَّدْتُمْ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} أَيْ إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنَثْتُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} مَعْنَاهُ فَحَلَفَ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} مَعْنَاهُ فَتَحَلَّلَ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أَيْ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْمَلْفُوظِ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّخْفِيفِ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ فَصَارَ اسْتِعْمَالُ الرُّخْصَةِ مُضْمَرًا فِيهِ، كَذَلِكَ هاهنا لَا تَصْلُحُ الْيَمِينُ الَّتِي هِيَ تَعْظِيمُ الرَّبِّ- جَلَّ جَلَالُهُ- سَبَبًا لِوُجُوبِ التَّكْفِيرِ فَيَجِبُ إضْمَارُ مَا هُوَ صَالِحٌ وَهُوَ الْحِنْثُ وَأَمَّا إضَافَةُ الْكَفَّارَةِ إلَى الْيَمِينِ فَلَيْسَتْ لِلْوُجُوبِ بِهَا بَلْ عَلَى إرَادَةِ الْحِنْثِ كَإِضَافَةِ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ إلَى الصِّيَامِ وَإِضَافَةِ الدَّمِ إلَى الْحَجِّ- وَالسُّجُودِ إلَى السَّهْوِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ سَبَبًا كَذَا هَذَا وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ بِرِوَايَاتٍ: رُوِيَ: «فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ» وَرُوِيَ: «فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَرُوِيَ: «فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لِيُكَفِّرْ يَمِينَهُ» وَهُوَ عَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً بِنَفْسِ الْيَمِينِ لَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَلْيُكَفِّرْ مِنْ غَيْرِ التَّعَرُّضِ لِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ مَاذَا وَلَمَا لَزِمَ الْحِنْثُ إذَا كَانَ خَيْرًا ثَمَّ بِالتَّكْفِيرِ فَلَمَّا خَصَّ الْيَمِينَ عَلَى مَا كَانَ الْحِنْثُ خَيْرًا مِنْ الْبِرِّ بِالنَّقْضِ وَالْكَفَّارَةِ عُلِمَ أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْحِنْثِ دُونَ الْيَمِينِ نَفْسِهَا وَأَنَّهَا لَا تَجِبُ بِعَقْدِ الْيَمِينِ دُونَ الْحِنْثِ، وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِهَا قَبْلَ الْحِنْثِ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ قَبْلَ الْحِنْثِ،.
فَأَمَّا التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الْحِنْثِ بِالْإِجْمَاعِ وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّهُ كَفَّرَ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ كَفَّرَ بِالْمَالِ بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ كَفَّرَ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تُضَافُ إلَى الْيَمِينِ يُقَالُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} وَالْحُكْمُ إنَّمَا يُضَافُ إلَى سَبَبِهِ هُوَ الْأَصْلُ فَدَلَّ أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فَكَانَ هَذَا تَكْفِيرًا بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ قَبْلَ الْحِنْثِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ- قَدْ مُثِّلَ وَجُرِحَ جِرَاحَاتٍ عَظِيمَةً اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْسَمَ أَنْ يَفْعَلَ كَذَلِكَ بِكَذَا كَذَا مِنْ قُرَيْشٍ فَنَزَلَ النَّهْيُ عَنْ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَذَلِكَ تَكْفِيرٌ قَبْلَ الْحِنْثِ لِأَنَّ الْحِنْثَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْيَمِينِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا يُحْتَمَلُ الْبِرُّ فِيهِ حَقِيقَةً وَذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِهِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ التَّكْفِيرِ لِلْأُمَّةِ قَبْلَ الْحِنْثِ إذْ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدْوَةٌ وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ مَا يَكُونُ مُفْضِيًا إلَى الْمُسَبَّبِ إذْ هُوَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الشَّيْءِ، وَالْيَمِينُ مَانِعَةٌ مِنْ الْحِنْثِ لِكَوْنِ الْحِنْثِ خُلْفًا فِي الْوَعْدِ وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} وَلِكَوْنِهِ اسْتِخْفَافًا بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ الْحِنْثِ فَكَانَتْ الْيَمِينُ مَانِعَةً مِنْ الْحِنْثِ فَكَانَتْ مَانِعَةً مِنْ الْوُجُوبِ إذْ الْوُجُوبُ شَرْطُ الْحِنْثِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَنَا فَكَيْفَ يَكُونُ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ؟، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ كَذَا بِالْمَالِ بِخِلَافِ التَّكْفِيرِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْجُرْحَ سَبَبٌ لِلْمَوْتِ لِكَوْنِهِ مُفْضِيًا إلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً فَكَانَ تَكْفِيرًا بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ فَجَازَ وَأَمَّا إضَافَةُ الْكَفَّارَةِ إلَى الْيَمِينِ فَعَلَى إضْمَارِ الْحِنْثِ فَيَكُونُ الْحِنْثُ بَعْدَ الْيَمِينِ سَبَبًا لَا قَبْلَهُ وَالْحِنْثُ يَكُونُ سَبَبًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَمَّاهُ كَفَّارَتَهُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} وَهِيَ اسْمٌ لِمَا يُكَفِّرُ بِالذَّنْبِ وَلَا ذَنْبَ إلَّا ذَنْبُ الْحِنْثِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنَثْتُمْ كَمَا يَقْرَأُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ الْكَفَّارَةُ تَجِبُ بِنَفْسِ الْيَمِينِ أَصْلَ الْوُجُوبِ لَكِنْ يَجِبُ أَدَاؤُهَا عِنْدَ الْحِنْثِ كَالزَّكَاةِ تَجِبُ عِنْدَ وُجُودِ النِّصَابِ، لَكِنْ يَجِبُ الْأَدَاءُ عِنْدَ الْحَوْلِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» لِنَفْيِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَا لِنَفْيِ أَصْلِ الْوُجُوبِ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا وُجُوبَ إلَّا وُجُوبُ الْفِعْلِ،.
فَأَمَّا وُجُوبُ غَيْرِ الْفِعْلِ فَأَمْرٌ لَا يُعْقَلُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ صَامَ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَعُلِمَ أَنَّ الْوُجُوبَ غَيْرُ ثَابِتٍ أَصْلًا وَرَأْسًا، فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى كَفَّارَةً قَبْلَ وُجُوبِهَا كَمَا يُسَمَّى مَا يُعَجَّلُ مِنْ الْمَالِ زَكَاةً قَبْلَ الْحَوْلِ وَكَمَا يُسَمَّى الْمُعَجَّلُ كَفَّارَةً بَعْدَ الْجِرَاحَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْحِنْثِ فِي جَوَازِهَا، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ الْحَقِيقِيَّةَ وَهِيَ الْكَفَّارَةُ الْوَاجِبَةُ بَعْدَ الْحِنْثِ مُرَادَةٌ بِالْآيَةِ فَامْتَنَعَ أَنْ يُرَادَ بِهَا مَا يُسَمَّى كَفَّارَةً مَجَازًا لِعَرَضِيَّةِ الْوُجُوبِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ مُنْتَظِمًا الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ.
وَأَمَّا تَكْفِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَقُولُ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى كَانَ تَكْفِيرًا بَعْدَ الْحِنْثِ لِأَنَّهُ تَكْفِيرٌ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَحْصِيلِ الْبِرِّ فَيَكُونُ تَكْفِيرًا بَعْدَ الْحِنْثِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَمَنْ حَلَفَ لَآتِيَنَّ الْبَصْرَةَ فَمَاتَ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ بِالْمَوْتِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَالْوَفَاءُ بِتِلْكَ الْيَمِينِ مَعْصِيَةٌ إذْ هُوَ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فَكَانَتْ يَمِينُهُ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ فَكَانَتْ مُنْعَقِدَةً عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ وَلَمَّا نُهِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَصَارَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً صَارَ إنْشَاءً وَعَاجِزًا عَنْ الْبِرِّ فَصَارَ حَانِثًا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ فَكَانَ وَقْتُ يَأْسِهِ وَقْتَ النَّهْيِ لَا وَقْتَ الْمَوْتِ أَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقْتُ الْيَأْسِ وَالْعَجْزِ حَقِيقَةً هُوَ وَقْتُ الْمَوْتِ إذْ غَيْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْمَعَاصِي فَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ لِتَصَوُّرِ وُجُودِ الْبِرِّ مَعَ وَصْفِ الْعِصْيَانِ فَهُوَ الْفَرْقُ- وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ-.